في صباح يوم ربيعي مشرق، تمتزج فيه رائحة خبز الطابون الفلسطيني بغبار الركام، كانت منال تجلس على عتبة ما تبقّى من بيتها المدمّر جزئياً في مخيم جباليا شمالي القطاع، تحتضن بين يديها رضيعاً ذا ملامح لا تشبه ملامحها، لكنها تحتضنه كما لو كان قطعةً من روحها.
هذه اللحظات الحميمة تحقق لمنال، حلمها بأن تختبر الأمومة. لكنها ليست الأمومة البيولوجية. "تزوجت قبل عشرة أعوام، ولم يُكتب لي ولزوجي الإنجاب. لكن الحرب على غزّة أهدتنا هديةً لم تكن في الحسبان. ففي السادس من آب/ أغسطس الماضي، كنت نازحةً مع زوجي في منزل أحد الأصدقاء في حي النصر في غزّة، حين حدثت مجزرة في مربع سكني كامل قصفه الاحتلال الإسرائيلي، ولم يعثر الدفاع المدني على أحد من الناجين سوى طفل صغير، وجدوه ملقى في الشارع"، تسرد منال زياد (28 عاماً)، قصتها لرصيف22.
تبنّي طفل في ظلّ ظروف الحرب القاسية، بحسب ما تقول، يتطلب شجاعةً كبيرةً. ومسألة العادات المجتمعية والقوانين تزيد أمر التبنّي صعوبةً
"لحظة رأيتُ الطفل مع رجل الدفاع المدني، كان ملاكاً صغيراً يبكي ويملأ وجهه الغبار. سألني الرجل إن كنت أعرف عائلته أو أعرف أحداً من أقاربه، فأجبت بأنني سأحاول العثور على أحد منهم، وطلبت منه أن يعطيني إياه. أخذته ووضعته بين ذراعيّ. شعرت بأن قلبي ينفطر من الألم. لكن أتاني إحساس بأنه سيكون ابني الذي منحني إياه القدر كوني لا أستطيع الإنجاب"، تضيف.
لم يكن قراراً سهلاً بالنسبة لها، فتبنّي طفل في ظلّ ظروف الحرب القاسية، بحسب ما تقول، يتطلب شجاعةً كبيرةً. ومسألة العادات المجتمعية والقوانين تزيد أمر التبنّي صعوبةً. "لم أرغب في رعايته فحسب، لقد أردت أن أعطيه شيئاً لا يُعوّض، وهو الشعور بالأمان وأن تكون له أمّ وأب شرعيّان"، تؤكد منال.
إلى الآن، خلّفت حرب الإبادة المستمرّة على قطاع غزّة، أكثر من 39 ألف يتيم، بينهم أكثر من 17 ألف طفل فقدوا الأب والأمّ معاً، بحسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء.
وفي ظلّ استمرار القصف والنزوح، لم يجد المجتمع الغزّي أو الجهات المسؤولة، حتى اللحظة، حلاً لإيواء هؤلاء الأيتام بشكل منظّم. لكن منهم من يعمل على رعايتهم أقرباء لهم من الدرجة الثانية، ومنهم من تبنّتهم عائلات غربية. وقد دفعت هذه الحالات ببعض النساء في غزّة، اللواتي لا يملكن القدرة على الإنجاب، إلى خوض تجربة الأمومة للمرة الأولى، ومنهن من لجأن إلى ما يسمّى بـ"الرضاعة المستحدثة"، كي يصبحن، بحسب قولهنّ، "أمّهات شرعيات" لهؤلاء الأيتام.
هل تمنحهنّ "الرضاعة المستحدثة" شعور الأمومة؟
تقول منال: "من المعروف أننا في قطاع غزّة نعيش وفق أحكام الشريعة الإسلامية. أريد أن يكون الطفل ابني شرعاً. حدّثتني طبيبة عن الرضاعة المستحدثة، والتي تمكّنني من إرضاع الطفل من صدري، فأصبح أمّاً لكنان، وهو الاسم الذي اخترناه له".
وتشير منال، أو أمّ كنان، كما تحب أن يُطلَق عليها، إلى أنّ الأمومة عطاء واستعداد لأن يمنح المرء روحه لمن يحتاجها. تصف شعورها حين أرضعت الطفل للمرة الأولى، قائلةً: "شعرت كأنّ قطرات الحليب دموع فرح. كنت أرتجف وقلبي ينبض بسرعة. لم أشعر بأنّه طفل غريب نجا من الموت، بل قطعة مني".
وعن الرضاعة المستحدثة، أو "التحفيز الصناعي لإدرار الحليب"، تقول الطبيبة النسائية المتخصصة في التوليد، سهاد يونس، في حديثها إلى رصيف22: "هي تقنية طبية تسمح للنساء اللواتي لم يحملن أو ينجبن، بإرضاع الأطفال الذين يتبنّينهنّ، من خلال أدوية أو أجهزة تحفز الغدد اللبنية على إنتاج الحليب".
وتوضح أنّ هذه التقنية باتت جسراً "شرعياً وإنسانياً بين النساء والأطفال"، بحسب تعبيرها.
عثر زوجي على سندس بعد قصف منزل قريب من منزلنا. استشهد جميع أفراد أسرتها. نجت سندس بمعجزة. جميع أقاربها خارج غزّة. لذا، قررت أنا وزوجي أن نتبنّاها
وتشرح يونس، أنّ هذه الوسيلة تستغرق وقتاً وتحتاج إلى بعض الصبر. فالمرأة تأخذ أدويةً هرمونيةً، وتحفز الثدي باستخدام مضخّة حليب مرات عدة يومياً، لمدة أسبوعين أو أكثر، ثم يبدأ الجسم بالاستجابة، مشيرةً إلى أنّ ثمة نساء لا تنجح معهنّ هذه التقنية.
وتؤكد يونس، على أنّ "النساء اللواتي خضن تجربة التبنّي مع الرضاعة، يشعرن بتحوّل عاطفي هائل، فإدرار الحليب للطفل يمنحهنّ شعوراً حقيقياً بالأمومة، ويقلّل من آثار الفقد والصدمة. أما الأطفال، فتسهم الرضاعة في إنماء شعورهم بالطمأنينة والانتماء، وهو ما يحسّن من تطورهم النفسي والعاطفي".
وتلفت إلى أنّ المجتمع الغزّي ينظر إلى الرضاعة المستحدثة كحلّ إنساني وشرعي، فمن خلالها يصبح الطفل الرضيع ابن المرأة شرعاً، وله ما للأبناء البيولوجيين من حرمة النسب والميراث الشرعي، بحسب الشريعة الإسلامية التي يحتكم إليها كثيرون.
"الأمومة ليس رحماً فحسب"
في زاوية غرفتها الصغيرة في منزلها في دير البريج وسط القطاع، تحتضن ولاء سمارة (40 عاماً)، رضيعتها سندس، التي تبلغ من عمرها سنةً واحدةً، وتردد على مسمعها تهليلةً، محاولةً تهدئتها لتنام.
قبل ثمانية أشهر، كانت سندس طفلةً يتيمةً تبكي بين الأنقاض، أما اليوم فهي في رعاية من أصبحت "أمّها"، التي حُرمت من الإنجاب عقداً كاملاً.
"عثر زوجي على سندس بعد قصف منزل قريب من منزلنا. استشهد جميع أفراد أسرتها. نجت سندس بمعجزة. جميع أقاربها خارج غزّة. لذا، قررت أنا وزوجي أن نتبنّاها"، تقول ولاء، لرصيف22.
وتصف شعورها، بعد أن نجحت في لجوئها إلى الرضاعة المستحدثة، قائلةً: "خلال الرضاعة، أشعر بأنّ الأمومة روح، وليست رحماً فحسب. لطالما تمنيت أن أختبر هذا الشعور. أخاف على سندس كثيراً. لحظة يحدث قصف قريب، أهرع إليها مسرعةً، وآخذها بين أحضاني. أتمنى لو أنّ قلبي صندوق صغير أخبّئها فيه، حتى لا يحدث لها مكروه".
تحتضن وزارة التنمية الاجتماعية 18 طفلاً رضيعاً نجوا من الحرب دون عوائلهم، ولم تتمكن من الوصول إلى أيّ من أقاربهم، فيما يتوزع عدد كبير من الأطفال بين العائلات الغزّية، التي لم تتوجه بهم إلى الوزارة حتى الآن
تقول ولاء، إنها اعتادت على سندس كثيراً، وإنّ وجودها في المنزل أضاف فرحاً جديداً إلى جدرانه الصامتة. "أحسّ بسعادة غامرة حين أقوم بتنظيف ملابسها الصغيرة"، تقول.
لكنها تواجه تحديات كثيرةً في توفير الحليب الإضافي الصناعي والحفاظات واحتياجات سندس كطفلة، في ظلّ عدم دخول المساعدات والحصار المطبق الذي تفرضه إسرائيل على القطاع. فضلاً عن تحديات أخرى، تتمثل في موضوع التبنّي قانونياً، بعد تواصلها مع وزارة التنمية الاجتماعية في غزّة، والتي اشترطت عليها وعلى زوجها قائمة شروط لتصبح سندس ابنةً لهم بحسب القانون.
في غزّة التبنّي مشروط
توضح هلا عطالله، مسؤولة برنامج التبني في وزارة التنمية الاجتماعية، المعايير التي تضعها الوزارة للأزواج الذين يرغبون في إجراء عملية التبنّي، وأبرزها ألا يزيد عمر الزوجين عن 50 عاماً، وأن يكونا من أصول فلسطينية، ومرّ على زواجهما أكثر من ثماني سنوات دون إنجاب، وأن يكونا، خلال هذه المدة، قد حاولا الإنجاب من خلال الحقن المجهري أو التلقيح، ولم ينجحا في ذلك.
كما تشترط الوزارة، أن تكون الأسرة فلسطينية خاليةً من أي أمراض، ولديها شهادة حسن سير وسلوك، وأن يكون سجلها القانوني خالياً من مخالفات قانونية. كما تطلب موافقة أهالي كلا الزوجين على احتضان أبنائهما طفلاً غير بيولوجي، وأن يكون الزوجان المحتضِنان للطفل مقتدرَين مادياً كي يتمكنا من إعالته.
"أما بالنسبة إلى تسجيل الطفل في الوثائق الرسمية، فتعتمد الوزارة كتابة اسم تتفق عليه مع الأب المحتضن، بحيث يكون مسجّلاً لدى الوزارة وفي الجهات الرسمية أنّ هذا الطفل محتضَن لدى العائلة".
"بعد سبع سنوات، يمكن للعائلة إخبار الطفل بكيفية وصوله إلى العائلة، بالتمهيد والأسلوب البسيط، حتى لا يُصدَم بالمعلومة في كبره، أو لدى عثوره على والديه البيولوجيين"، تضيف عطالله.
وتلفت إلى أنّ الحرب دفعت الكثيرين إلى التبنّي. "تصلني يومياً عشرات الاستفسارات من المواطنين حول إجراءات التبنّي"، تقول مؤكدةً.
وتوضح أنّ الوزارة تحتضن 18 طفلاً رضيعاً نجوا من الحرب دون عوائلهم، ولم تتمكن من الوصول إلى أيّ من أقاربهم، فيما يتوزع عدد كبير من الأطفال بين العائلات الغزّية، التي لم تتوجه بهم إلى الوزارة حتى الآن.
وختمت عطالله، بالقول إنّ ثمة تحديات مهولةً تواجه التنمية الاجتماعية في غزّة، أهمها صعوبة الوصول إلى الأهالي بسبب الدمار الكبير الحاصل في المنازل والبنى التحتية، وانقطاع الاتصالات، وقصف مرافق الوزارة نفسها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ يومترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!
Naci Georgopoulos -
منذ يومOrangeofferis a convenient platform for finding the latest promo...
Naci Georgopoulos -
منذ يومgutscheine7.de is a German coupon platform that helps users discover...
Naci Georgopoulos -
منذ يومJust found couponasion— it’s a site that lists working discount...
Naci Georgopoulos -
منذ يومPromopro.co.uk – UK Promo Codes & Deals:A reliable UK-based platform...
Naci Georgopoulos -
منذ يومsavingsis a helpful site for finding discount deals and coupon codes...