للأسبوع الثاني على التوالي، تخلو الجامعات السورية من أبناء طائفة المسلمين الموحدين الدروز، المهجّرين من الجامعات السورية، بعد أن خرجت أصوات تكفيرية متشددة مطلقةً شعارات طائفيةً، وداعيةً إلى الجهاد وقتل الدروز، في مشهد ترهيب طائفي غير مسبوق في تاريخ سوريا الحديث.
ما سبق يشكّل صدمةً كبيرةً لآلاف الطلاب وعائلاتهم، إذ لا يزال صدى الهتافات الطائفية والتهديدات بالذبح في آذانهم، بينما ترنو عيونهم إلى المستقبل، وسط جدل متصاعد حول سبل تأمين عودتهم إلى جامعاتهم، بدءاً من توفير الحماية، ووقف التجييش الطائفي بحقّهم، الذي يلقي بظلالٍ قاتمة على النسيج الاجتماعي المتهتّك أصلاً.
بيئة جامعية طاردة وخوف وجودي
لم يمضِ وقت طويل على توديع كريم، الطالب في كلية الهندسة (سنة ثالثة)، والمقيم في المدينة الجامعية في حمص، زملاءه من أبناء الطائفة السنّية، حيث كانوا يتبادلون الأحاديث وتتردد ضحكاتهم في الأرجاء، حتى تجمهر عدد من الطلاب السنّة وهم يرددون التكبيرات التي أصبحت للأسف تُقرَن بصور القتل والذبح الطائفيين، من قِبل مجموعات متشددة بدأت تظهر في الجامعة. لا يكاد يمر يوم دون أن تتجول مجموعة ليلاً مطلقةً شعارات طائفيةً، ثم تنفضّ بعد وقت قصير. لكنها هذه المرة كانت مختلفة.
يقول لرصيف22: "هذه المرة كانت الشعارات الطائفية موجهةً ضد الدروز بشكل مباشر، وتدعو إلى الجهاد ضدهم وذبحهم أينما وُجدوا. فجأةً، سقطت كل القيم المشتركة، وغابت الأخلاق. ما زلت أشعر بالصدمة. هل هؤلاء طلاب جامعات يُفترض أنّ لديهم القدرة على التفكير؟ يبدو أنهم لا يحملون سوى أفكار سيئة تدعو إلى للنيل منّا. ونحن الدروز، نشارك الجميع مناسباتهم، من عيد الفطر والأضحى، إلى عيد الميلاد ورأس السنة".
في لحظة مفصلية، تحوّلت جامعة حمص من مكان للعلم إلى ساحة تهديد بالموت، كريم طالب الهندسة الدرزي سمع بنفسه هتافات تدعو لذبح الدروز، وهي لحظة شكلت صدمة كبيرة بالنسبة له، وما زال صداها يتردّد في داخله رغم محاولات التماسك
لم يكن كريم، خلال حديثه إلى رصيف22، قادراً على التعبير عن مشاعره بوضوح، إذ يختلط لديه الخوف مع الحزن. يقول: "خلال الأشهر الأخيرة، أُجبرنا على مغادرة مقاعدنا الدراسية ثلاث مرات بسبب الأوضاع في البلد. لكن هذه أول مرة نُجبر فيها على المغادرة لأننا دروز. شعرت وكأنني اقتُلِعت من منزلي وسُلبت حقوقي لأسباب طائفية بحتة".
ويضيف: "بعد مغادرتي، تواصل معي أناس من مختلف الطوائف حتى وصلت إلى منزلي. هناك من لا يزال يصون الكلمة الطيبة والعيش والملح".
بعد أيام من أحداث جامعة حمص، شعر كريم، بأنّ مستقبله انهار. وفي كل مرة كان يظنّ فيها أنه قادر على الاستمرار، كان يعود إلى نقطة الصفر. يقول: "أنا حزين على أصدقائي. لم أعد أعلم كيف أتعامل معهم أو كيف ينظرون إليّ"، مستبعداً عودته إلى جامعته هذا الفصل، آملاً أن تحمل الأشهر القادمة نوعاً من الاستقرار. "نريد أن نشعر بالأمان، وأن نكرّس مبدأ 'الدين لله والوطن للجميع'، وألّا يُسأل أحد عن طائفته. نحتاج إلى إعلام وطني يقف معنا، لا ضدنا، وأعتقد أن هذا مطلب غالبية الناس"، يضيف.
يرى كريم، أنّ "هناك فئةً تحتاج اليوم إلى رفع الوعي، وإعلام مهني وصادق، لأن الإعلام ووسائل التواصل ساهما في التجييش الطائفي، وزوّرا الحقائق".
فقدان الثقة والخوف من الانتقام
يشاطر مضر، ابن محافظة السويداء والطالب في جامعة حمص، زميله كريم الشعور بالصدمة. يقول لرصيف22: "لم أصدّق ما سمعته في تلك الليلة: شخص يصرخ وسط مجموعة طلاب يحملون عصيّاً وأسلحةً بيضاء قائلاً: 'يجب أن نذبح كل درزي نراه، وكل من يدافع عن سلطان الأطرش'، ويدعو الطلاب الدروز إلى النزول لمواجهتهم".
لم يخرج أحد لمواجهتهم بالطبع، لكن سرعان ما بدأوا بالتكبير مجدداً وهجموا على الوحدات السكنية، مستهدفين غرف الطلاب الدروز، خاصةً في الوحدات الأولى والثالثة والتاسعة، حيث خلعوا الأبواب واعتدوا عليهم بالضرب، وفق ما يقول مضر، الذي كان مع مجموعة من أبناء السويداء في الطابق الأخير، حيث أغلقوا الباب بإحكام، بينما التكبيرات والشعارات الطائفية تملأ المكان.
اختبأ مضر وزملاؤه الدروز في غرفة زميل غريب من القلمون، حيث ناداهم: "لا تخبروهم أنكم من السويداء... هؤلاء مجانين"، هذا المشهد بقدر ما جسّد هشاشة الأمن جسّد جمال التضامن العابر للطوائف.
طرق بابهم زميل من القلمون لم يكن يعرفهم من قبل، وسألهم إن كانوا من السويداء، ثم دعاهم للاختباء في غرفته، قائلاً: "إن وصلوا إليكم، لا تخبروهم بأنّكم من السويداء، فهؤلاء مجموعة من المتشددين المجانين". وبقوا هناك حتى جاءت "قوات الهيئة-الأمن العام"، التي حاولت تفريق المهاجمين، واعتقلت شخصاً يُدعى عباس، وهو إمام جامع المدينة والمحرّض الرئيسي.
مضر، الذي رفض ذكر اسمه الصريح خوفاً من الانتقام، لا يعتقد أنه سيعود إلى جامعته هذا العام، بسبب غياب الأمن. يقول: "لا أستطيع التفكير في الأمر، فقد أُستهدَف أو أفقد حياتي في أي لحظة، وسيُقال إنه خطأ فردي".
سرعان ما انتقلت نيران التحريض الطائفي إلى المدينة الجامعية في حلب، حيث تجمعت نهاية الشهر الماضي، مجموعة من الطلاب المتشددين الذين رفعوا شعارات طائفيةً ضد الدروز، إلى جانب سيل من الشتائم والتهديدات، بحسب ريان، وهو طالب سنة أولى في جامعة حلب. يقول ريان، لرصيف22: "التزمنا بعدم الردّ لتجنب أي صدام، فقد شعرنا بأنّ عددهم يمكن أن يتضاعف فجأةً. وبرغم أن بعض الزملاء من غير طائفتنا ساندونا قدر استطاعتهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من مواجهة المتشددين".
الحديث اليوم بين طلاب السويداء المهجّرين من جامعاتهم، يتمحور حول العودة أو عدمها، في ظلّ مشاعر مختلطة من الحزن على ضياع عام دراسي، والقلق من مستقبل مجهول، والخوف من التشدد الطائفي.
يأمل مضر، في العودة يوماً ما، خاصةً أن بينهم طلاباً على أبواب التخرج، ما يتطلب تدخلاً من إدارة الجامعة والأمن العام لضبط المتشددين الذين يعتقدون أن قتل الدروز وسيلة لدخول الجنّة.
أحلام تتبخر
روعة، طالبة في السنة الرابعة في جامعة حلب، كانت تنتظر حفل تخرجها بعد الامتحانات النهائية، مثل المئات من طلاب السويداء، لكن تلك الأحلام تلاشت مع اضطرارهم إلى المغادرة بسبب التجييش الطائفي. تقول: "حاولنا دائماً نشر المحبّة بين زملائنا، لنثبت للجميع أننا لسنا طائفيين، ولا نتدخل في عبادة أحد ولا نعتدي على أحد. نريد الاحترام المتبادل فحسب".
وتضيف لرصيف22: "في 28 نيسان/ أبريل الماضي، علمنا من زملائنا بأنّ مظاهرةً ستخرج في المدينة الجامعية في حلب، احتجاجاً على تسجيل صوتي منسوب إلى شيخ درزي يسيء إلى الرسول الكريم، وقد ثبت لاحقاً أنه مفبرك، لكن مع ذلك، أُطلقت هتافات طائفية وشتائم ضد الدروز".
هناك قرارات حكومية تحظر خطاب الكراهية في الجامعات السورية، لكنها لم تُطبّق بفعالية حتى الآن. والتهجير الطائفي للطلاب الدروز كشف عن عمق الشرخ الوطني وهشاشة الردّ الرسمي، ما أثار تساؤلات كبرى حول قدرة المؤسسات على فرض بيئة تعليمية آمنة لجميع السوريين والسوريات
تستذكر: "في تلك الليلة، بين التاسعة والعاشرة مساءً، خرجت مظاهرة أمام السكن الجامعي بحضور الأمن، وأُطلقت هتافات من قبيل: 'قائدنا للأبد سيدنا محمد'، و'طائفية طائفية وصلوها للدرزية'، وشعارات مسيئة إلى الشيخ حكمت الهجري، وهذا كله دون تدخّل أمني. لم يردّ أحد من الطلاب الدروز، لكن الجميع شعر بالخوف. وفي الصباح، انطلقت حافلة نحو السويداء، لكنها توقفت يوماً كاملاً في جرمانا بسبب الأحداث، ووصلنا في اليوم التالي".
محاولات احتواء وضعف في التنفيذ
في 10 أيار/ مايو الجاري، اجتمع وفد من ناشطي السويداء مع وزيرَي الداخلية والتعليم العالي في دمشق، من بينهم سليمان الكفيري، الذي يقول لرصيف22: "تلقينا وعوداً بتأمين بيئة جامعية آمنة، ومعاقبة كل من يسيء أو يحرّض طائفياً، وتعويض الفاقد التعليمي للطلاب. وتم التأكيد على اتخاذ إجراءات رادعة، وطرح تشكيل لجان طلابية، وتسيير دوريات لحماية الطلاب".
روعة، طالبة درزية في سنتها الأخيرة في جامعة حلب، كانت تجهّز لحفل تخرجها، قبل أن تُجبر على الهروب. تسجيل صوتي مفبرك واحد، كان كافياً لتبخير أحلامها.
وبحسب الكفيري: "السلطات باشرت ملاحقة المسؤولين عن الهجمات، حيث تم توقيف بعض المتورطين وطرد آخرين من الجامعة"، مضيفاً: "تم التأكيد على إصدار قوانين تقمع التجييش الطائفي، وعلى العمل على برامج لرفع الوعي والانتماء الوطني، دون أن تنعكس العقوبات على عائلات أو مكونات الطلاب المتورطين".
من جهتها، أصدرت وزارة التعليم العالي، بداية الشهر الجاري، قراراً يحظر على أعضاء الهيئة التعليمية والطلاب والعاملين في الوزارة والجامعات والمعاهد التابعة للوزارة كافة، نشر أو تداول أو ترويج، بأي وسيلة كانت، أي محتوى يتضمن التحريض على الكراهية أو الطائفية أو العنصرية أو يسيء إلى الوحدة الوطنية أو السلم الأهلي، وتعرّض مرتكبي تلك الأعمال للمساءلة الجزائية والمدنية والمسلكية.
ما حدث من تهجير للطلاب الدروز من الجامعات السورية، ليس حادثاً عابراً، بل مؤشر مهم على هشاشة السلم الأهلي وعمق الشرخ الطائفي، اللذين يهددان مستقبل أجيال من الطلبة، في ظلّ غياب إجراءات حاسمة تضمن بيئةً تعليميةً آمنةً وعادلةً للجميع، الأمر الذي يحتاج إلى إجراءات سريعة وعلى الأرض للمحاسبة وضمان عدم التكرار، وهذا يتطلب إرادةً سياسيةً جدّيةً، يدعمها موقف وطني جامع يحمي أبناء سوريا من أي طغيان طائفي يهدد ما تبقّى من روابط وطنية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
رزان عبدالله -
منذ يومينشكرأ
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ 3 أيامترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!
Naci Georgopoulos -
منذ 4 أيامOrangeofferis a convenient platform for finding the latest promo...
Naci Georgopoulos -
منذ 4 أيامgutscheine7.de is a German coupon platform that helps users discover...
Naci Georgopoulos -
منذ 4 أيامJust found couponasion— it’s a site that lists working discount...
Naci Georgopoulos -
منذ 4 أيامPromopro.co.uk – UK Promo Codes & Deals:A reliable UK-based platform...