الجنس سنة 2070.. وداعاً للجسد ورقمنة تامة للعلاقات الحميمة

الجنس سنة 2070.. وداعاً للجسد ورقمنة تامة للعلاقات الحميمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 29 مايو 202510:53 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل واقعٍ أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.


الجسد مات. نحن من قتلناه!

العلاقات الحميمية، بين فرجينيا ومحمد، معدومة منذ خمس سنوات. أما الحب، فقد تلاشى قبل ذلك بسنة. 

لم ينزعا خوذتيهما ثلاثية الأبعاد منذ ثلاثة أشهر. يعدّون علاقاتهم الحميمية الافتراضية بالمئات. 

إنها سنة 2070؛ الصيف جحيم. الحرارة بلغت ستين درجةً مئويةً تحت الظلّ. ثقوب طبقة الأوزون أضحت أكثر كثافةً من أن تُعدّ على رؤوس الأصابع.

غيّرت فيرجينيا عنوان إقامتها. أصبحت تقطن في مواقع الخدمات الجنسية المدفوعة. تشتكي من التضخّم الذي طال ثمن العلاقات الافتراضية. الواحدة منها تكلّف عشرين دولاراً!

لكنها غارقة في حيرة لذيذة، إذ يمكنها أن تختار، بعد الدفع، أيّ فحل شبق من قارات العالم، للمدة الزمنية التي تناسبها، وتختار ما يناسبها من لائحة الاستيهامات التي تلبّي رغباتها كافة.

محمد صار من الخبراء المحنّكين في عالم الجنس الافتراضي. يحفظ مواقعه أكثر من جيبه. على عكس فيرجينيا، لم يودّ أن ينفصل عن العالم الحسّي بشكل تام. اشترى أدوات جنسيةً تفاعليةً، يمكن أن تتّصل بالحاسوب، وأن تدخُل في أجزاء من الجسم. يهتزّ الجسد من اللذة، على إيقاع نقرات "الفأرة"!

محمد صار من الخبراء المحنّكين في عالم الجنس الافتراضي. يحفظ مواقعه أكثر من جيبه. على عكس فيرجينيا، لم يودّ أن ينفصل عن العالم الحسّي بشكل تام. اشترى أدوات جنسيةً تفاعليةً، يمكن أن تتّصل بالحاسوب، وأن تدخُل في أجزاء من الجسم. يهتزّ الجسد من اللذة، على إيقاع نقرات "الفأرة"!

"لولا الخيال لانفجرت"، هذه نبوءة محمد شكري، الروائي المغربي الشهير. منذ فجر التاريخ، والإنسان يتأهب لهذه اللحظة التاريخية، التي يغادر فيها العالم المحسوس وينخرط في عوالم افتراضية لذيذة، تنأى به عن الألم الذي يشعر به والمعاناة التي يكابدها كل يوم. الآن، العودة إلى الواقع اقتصرت على تلبية الحاجات البيولوجية والتزود بمخزون الفيتامين "د"، فحسب.

إنها القطيعة مع جدلية هيغل، وفتنة الصراع والتزاحم بين البشر. في العالم الافتراضي، كلّ ينال مراده، دون السطو على ممتلكات الآخر، فهذا العالم الجديد، لا طول له ولا عرض، بل يتّسع لرغبات الجميع. الآخر صار فرصةً وليس عدوّاً أو عقبةً. يمكن أن تنشئ حميميةً معه، وإن امتنع، يسود التآخي، دون إحباط ولا عداوة.    

وراء هذه الثروة كلها، تقف شركة Sexomania، الرائدة في مجال تكنولوجيا العالم الافتراضي. لقد سحقت منافسيها كلهم. بلغت أرباحها السنوية 800 تريليون دولار، مبتعدةً بذلك بفارق مخيف عن منافساتها، شركة تيسلا، وآبل، وسبايسمانيا (Spacemania)، وإيانازاكي (IAnazaki). 

فاز ويلفريد بيس، المدير التنفيذي للشركة، بجائزة نوبل للسلام، بعد أن كَتب نهاية أزمة الحرمان الجنسي في العالم، ووضع حدّاً للصراع الوجودي بين النساء والرجال، إذ صار الجنسان يلتقيان في العوالم الافتراضية فحسب، وساد بينهما الود والاحترام… والحميمية عن بعد! 

عندما حكيتُ قصة فيرجينيا ومحمد، للسوسويولوجي الفرنسي دافيد لوبروتون، المتخصص في الجسد، بكى بغزارة، وتهدّج صوته من شدّة الفخر والتأثر!

لقد تنبّأ قبل خمسين سنةً، بـ"وداع الجسد"! أخبر البشرية، قبل زمن، بأنّ الجسد مجرد وعاء، لتفريغ الرغبات، ويمكننا التخلص منه... أو عدم تقديسه.

 أليس الجسد رمزاً أبدياً للضعف والأمراض والموت؟

أليس احتكاك الأجساد هو الذي يفضي إلى انتقال الأمراض المنقولة جنسياً؟

أليست المعارك السلمية للأجساد هي التي تثير التوجس في قلوب الإنسان من تذبذب المردود الجنسي، وتضعضع كفاءة المضاجعة؟

منذ عصور سحيقة، والإنسان يهاب الحقيقة ويجنح نحو الخيال. ألم تستنجد البشرية باللغة، والإرث المكتوب، لتنسج روايتها الخاصة حول التاريخ والوجود؟ ألا تحظى الرواية والأجناس التخيّلية بالمقروئية الأكبر، أكثر من الكتب العلمية المبنية على معطيات مثبتة وحقائق؟ 

لهذا، وللكثير غيره، تُعدّ سنة 2070 مفصليةً. إنها سنة القطيعة النهائية مع العالم المحسوس، سيهيم الجميع (أو الأغلبية) في عالم افتراضي (Metaverse). أغلى ما في الوجود الآن، هي الخوذات ثلاثية الأبعاد التي حرصت شركة Sexomania على "دمقرطة" الولوج إليها، وباعت منها الملايين.

توصلت آخر الأبحاث العلمية في جامعة هارفارد، إلى كون الافتراضي ليس نقيض الواقع، بل امتداد له. تخلّت الدول الآن عن الميزانيات الضخمة للتسلح والإعمار. صار الإنسان يحتاج إلى فضاءات أقلّ، وبنية تحتية أكثر تأقلماً مع خوذاته الرقمية. كل المدن صارت ذكيةً، للتأقلم مع العالم الجديد وتوفير إنترنت بالجودة المثلى. 

القانون الدولي صار ينصّ على أنّ الحروب تشتعل حصرياً عن بعد. صارت المعارك المسلحة سيبرانيةً حصراً. أما الموت والاغتيال فصارا رمزيين فحسب. قتلُ القادة العسكريين رمزياً يتم عبر تسريب ملامحهم الجنسية عبر الإنترنت. لكن شركة Sexomania، وعدت بمحاربة الابتزاز الجنسي ورفضت تسييس خدماتها التي أفضت إلى خلاص العالم.

القانون الدولي صار ينصّ على أنّ الحروب تشتعل حصرياً عن بعد. صارت المعارك المسلحة سيبرانيةً حصراً. أما الموت والاغتيال فصارا رمزيين فحسب. قتلُ القادة العسكريين رمزياً يتم عبر تسريب ملامحهم الجنسية عبر الإنترنت.

شركة Sexomania مبتهجة بالتفاعل الإيجابي لجميع سكان العالم، حتى مجتمعات الشرق الأوسط المحافظة، مع مواقعها ومنتجاتها. الحملة الترويجية القادمة ستكون في فلسطين، بمناسبة حلول الذكرى الثلاثين لتحرير البلد وتأسيس دولة مستقلة. 

اقترح أحد مستشاري Sexomania، وضعَ عقود شرعية تقنن العلاقات الافتراضية في المجتمعات المحافظة، لكن الشركة سرعان ما تخلت عن الفكرة، بعدما أيقنت أن جميع شعوب العالم أضحت تعتنق ثقافةً واحدةً، قائمةً على اللذة والاستمتاع والتآخي، دون أيديولوجيات وصراعات.

توجد أقلية تعارض هذا التغيير الجذري في "براديغم" الناس وأسلوب عيشهم الجديد. لا أحد يأبه لخروقاتهم وتمرّدهم، أو بالأحرى، لا أحد يلحظها. فحتى من ينزع خوذته للضرورة، يسابق الزمن، ليعود إليها، ويهيم في العوالم الافتراضية الفسيحة.

وصلنا إلى نقطة اللارجوع. الرجوع صار مستحيلاً، أمام هذا الإجماع الكوني والسعادة الشاملة. حتى الجنازات صارت افتراضيةً، والدموع صارت تُذرف بلوحة المفاتيح فحسب، والقبل صارت بالزرّ وليست بالأفواه.

دنت سنة 2070 من النهاية. وبرغم الرضا العارم، يتطلع البشر إلى سعادة أكبر في عوالم Metaverse. يريدون تعويضاً أكبر عن كل الأحزان التي عاشوها في الحياة ''الواقعية''. انتظارهم الأكبر... جنسي. يريدون عالماً افتراضياً أكثر جموحاً على المستوى الجنسي، حتى يلملموا جراح كل تلك الليالي التي قضوها وحيدين، وكل الأيام التي اشتهوا فيها عناقاً فحسب، أو مواساةً، أو قبلة!

2071 على الأبواب. رهان شركة Sexomania الاقتصادي والقيمي هو أن تنهي جميع فلول العلاقات الحميمية في الواقع. فهل تنجح في ذلك؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image
OSZAR »